فصل: الاستثناء بالشرط في قوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الاستثناء بالشرط في قوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع}:

للاستثناء أدوات كثيرة، منها: إلا، وغير، وسوى، وقد يستثنى بجملة الشرط، كما هو حال الجملة هنا؛ ولذلك لما قيل: {وليملل الذي عليه الحق}، تبين أن هذا الحق قد يكون على أناس لا يستطيعون القيام بعملية الإعلام، وهم: السفيه، والضعيف، ومن به سبب عارض يمنعه من الكتابة، فاستُثنوا- ليس من الكتابة- وإنما من الإملال؛ إذ الكتابة واجبة على الجميع، ولعل إدخال هؤلاء في دائرة الكتابة يزيد من معنى الوجوب الذي مال البحث إليه.
إلا أن الاستثناء هنا سلك طريق الشرط؛ وذلك لأن الشرط في الأصل قيدٌ، والقيود والعقبات تتواءم مع سياق الآية، الذي يسير في فلك التشديد والتضييق.
ولكن: إذا كانت الديون تنشأ من قرض، أو بيع، أو شراء بأجل، وهؤلاء لايمكن لهم مباشرة هذه المعاملات بأنفسهم، فكيف يقع عليهم دين ثم يكتب عنهم وليُّه؟!
ولعل أولياءهم هم الذين يبيعون لهم بأجل، أو يشترون بأجل، أو يقترضون لهم، أو أن لبعضهم رخصة من ولي الأمر، بأن يبيع أو يشتري، كما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لمنقذ بن عمرو، حيث قال يا رسول الله إني لا أصبر على البيع، فقال له صلى الله عليه وسلم: قل: «لا خلابة» أي: لا خداع.
ترتيب الأصناف الثلاثة:
الوقوف أمام بلاغة ترتيب هذه الأصناف الثلاثة يأتي بعد معرفة المقصود بكل صنف، فالسفيه: من السفه، والسين، والفاء، والهاء، أصل واحد يدل على خفة، وسخافة، وهو قياس مضطرد، فالسفه ضد الحلم.
ولذلك قيل: السفيه هو: الجاهل بالصواب في الذي عليه أن يُمله على الكاتب، أو هو الجاهل بالإملاء، والأمور.... ويدخل في ذلك كل جاهل بصواب ما يُمل، من صغير وكبير، وذكر وأنثى.
وقيل إن السفيه: هو مختل العقل. والضعيف هو: الصغير؛ لقوله تعالى: {وله ذرية ضعفاء} [البقرة 266]، أما الذي لا يستطيع أن يمل: فهو العاجز، كمن به بكم، وعمى، وصمم جميعًا.
ومما سبق يتضح وجه الترتيب بين هذه الأصناف؛ فأشد الناس حاجة إلى وليّ ليقوم عنه بالإملاء هو السفيه؛ لأنه مختل العقل، لا يُحكم الأشياء.
ثم يأتي الضعيف، وهو الذي يملك قوة لكنها ضعيفة؛ إما لصغر سن، أو لكبر سن، أو لقلة تجربة في الحياة، وهذا يلي السفيه في حاجته إلى من يملي عنه،.
أما الأخير فهو: {الذي لا يستطيع أن يُمل هو}؛ ويقصد به الذي لا يملك الصيغة المثلى، أو الأسلوب الأمثل في العقود، مع امتلاكه لمقومات العقل والقوة.
فترتيب هذه الأصناف ترتيب أولوية في حاجة كل صنف إلى من يقوم عنه بالإملاء؛ فالسفيه أشدهم احتياجًا، ثم الضعيف، ثم الذي لا يستطيع الإملاء.
وقد صيغ الصنف الأخير في جملة فعلية، مع أن الصنفين الأولين جاءا في صورة الاسم- السفيه، والضعيف، أما الأخير فقيل: {أو لا يستطيع أن يمل هو}، وكان يمكن أن يقال: أو غير مستطيع.
ووجه ذلك، الإشارة إلى أن عدم استطاعته ليست على الدوام؛ لأنها عارضة، وطارئة، فلما كانت غير ثابتة، عُدل بها عن الاسم إلى الفعل.
أما الضمير هو في قوله: {أن يمل هو}، فإنه توكيد للضمير المستتر في {أن يمل}، وفائدة التوكيد به: رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، فيقال: أو لا يستطيع أن يمل؛ فالضمير {هو} أفاد التنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه.
وجاء الفعل هنا {يُمل} بإدغام اللام في اللام، في حين أنه جاء قبل ذلك مفكوك الإدغام، في قوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق}، وجاء أيضًا بعد ذلك مفكوك الإدغام، في قوله: {فليملل وليه بالعدل}، فما الحكمة في ذلك؟
لابد أولًا أن أشير إلى أن الإدغام والفك لهجتان فصيحتان للعرب؛ فالحجازيون لهجتهم الفك، والتميميون لهجتهم الإدغام.
وهذا لا يكفي لمعرفة وجه اصطفاء الإدغام في قوله: {أو لا يستطيع أن يملّ هو}، واصطفاء الفك في الباقي.
وبالنظر يتضح أن الإدغام جاء مع الإنسان العاجز عن الإملاء، وهو الذي لا يستطيع الإملاء، كأن في لسانه حُبسة، أو نحو ذلك، وهو لا يستطيع التوضيح والتفصيل؛ ولذلك استخدم معه {يُملّ} بالإدغام؛ ليرسم صورةً له؛ حيث تتداخل ألفاظه، أو تنبهم معانيه؛ ولذلك يوكل عنه من يقوم بالإملاء.
أما الآخران اللذان يستطيعان الإملاء ويباشران ذلك بأنفسهما فجاء الفعل معهما مفكوكًا ليصور قدرتهما على التوضيح والبيان.
وعلى هذا: كانت كل صورة من صور الفعل متناغية مع حالة المتكلم، وهذا توافق عجيب معجز، بين الفعل وفاعله.
فإن كان الفاعل فصيحًا، صريحًا يؤتى معه بالفعل صريحًا، وإن كان الفاعل في لسانه، أو عقله خلل من: احتباس، أو همهمة، أو غمغمة، أو سوء فهم، أو نحو ذلك، يؤتى معه بالفعل المدغم.

.أثر التكرار في بناء جملة: {فليملل وليه بالعدل}:

وهذه الجملة هي جواب الشرط السابق؛ أعني قوله: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يُملّ هو}.
والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الشرط هو التخفيف عنهم؛ بأن يقال مثلًا: فلا حرج عليهم ألا يكتبوا....أو نحو ذلك.
لكن جواب الشرط جاء بالإملال، وبصيغة المضارع المقترن بلام الأمر، وهي ألزم وأشد في الوجوب، وهذا يشير إلى أن وجوب الكتابة ليس مقصورًا على أحد دون أحد فلا تسامح في هذا الأمر، حتى وإن كان الذي عليه الحق سفيهًا، أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل.
وهذه الفاء هي الواقعة في جواب الشرط؛ لأنه فعل أمر، والمجيء بالمضارع المقترن بلام الأمر يدل على أن الوجوب الكامن في الإملال الأول على الذي عليه الحق لم يُنقض، ولم يتسامح فيه، بل هو ما عليه من الإلزام، والفرضية.
ويلحظ هنا تكرار لفظ الإملال؛ حيث ذكر ثلاث مرات، وكأنه ركن من أركان العقد؛ لما فيه من رفع الصوت، وسماع الجميع لقيمة الدين، وموعد سداده، فالأمر أمر إعلان، وإشاعة لمن له الحق، ومن عليه الحق، ليعلم الناسُ ذلك، وفي هذا ما فيه من إشراك للمجتمع في الشهادة؛ ليكون ألزم للمدين بالسداد.
واللفظ الآخر في هذه الجملة هو {بالعدل}؛ حيث ذكر قبل ذلك في قوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل}.
وليس العدل هنا أو هناك بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد؛ فيقال: رجل عدل، لأن وجود الباء يصرف عن ذلك.
فكلمة العدل هنا تعني الحق؛ أي: بما يعتقده، وليس غيره، فإن إملاء ما يعتقده هو إملاء الحق.
فإذا رجعنا إلى معنى التكرار لهذا الحق، فإننا نجد أن هذا الحق ذكر عدة مرات:
1- في قوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} فإنها تصب في معنى الحق.
2- ثم التصريح بها في قوله: {وليملل الذي عليه الحق}.
3- ثم التعبير عنه بالضمير في قوله: {ولا يبخس منه شيئًا} أي من الحق.
4- ثم التصريح به مرة رابعة، في قوله: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا}. فصرح به مرة أخرى.
5- ثم التعبير عنه بالكناية في قوله: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا}؛ فالضمير في {تكتبوه} يمكن حمله أيضا على الحق.
فهذه المواضع تشير إلى أن {الحق} كلمة سارية في أوصال الآية ومقررة بعدة صور؛ لتملأ على الجميع حواسهم، فلا تغيب عنهم، وفي ذلك ما فيه من إثارة النفوس إلى حفظ هذا الحق، وضمانه، والاجتهاد في إيصاله إلى أصحابه.
فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن كلمة {العدل} يمكن حملها على معنى الحق؛ أي يملل بالحق؛ لظهر جليًا قيمة هذه اللفظة، وحرص الآية على إشاعتها في النفوس.

.عوامل التوكيد في جملة: {واستشهدوا شهيدين}:

هذا هو الطرف الثالث في الآية، بعد الحديث عن المتداينين، والكاتب؛ ليكتمل بذلك توثيق العقد.
وتأخرت جملة الإشهاد عن جملة الكتابة؛ لأنها مؤخرة عنها في الواقع، فالشاهدان يشهدان بعد تحرير الوثيقة، وليس قبلها وشهادتهما ليس مقصودا بها رؤية الأخذ والعطاء فقط، بل مقصود بها أيضًا توقيعهما على تلك الوثيقة، وإقرارهما عليها كتابة؛ وذلك مستفاد من قوله تعالى: {وليكتب بينكم}، فصيغة الجمع في {بينكم} تدل على حضور الشهود، وإقرارهما بما في العقد كتابةً.
والجملة معطوفة على جملة: {فاكتبوه}.
وحقيقية الشهادة: الحضور، والمشاهدة، لكن المراد بها هنا حضور خاص، وهو حضور لأجل الاطلاع على التداين.
وقد جاء في هذه الجملة عدة مؤكدات تبين أهميَّة الشهادة، وأثرها في حفظ الحقوق.
وأول هذه المؤكدات:
اصطفاء لفظ الشهادة دون العلم، فقال: {واستشهدوا} ولم يُقل: وأعلموا؛ لأن الشهادة أخص من العلم؛ وذلك أنها: علم بوجود الأشياء، لا من قبل غيرها.
والشاهد نقيض الغائب في المعنى؛ ولهذا سمي ما يدرك بالحواس، ويعلم ضرورةً شاهدًا.
فالشهادة: علم يتناول الموجود، أما العلم فيتناول الموجود والمعدوم.
كما أن الشاهد للشيء يقتضي أنه عالم به، ولهذا قيل: الشهادة على الحقوق؛ لأنها لا تصح إلا مع العلم بها،وذلك أن أصل الشهادة الرؤية، وقد شاهدت الشيء: رأيته رؤية وسمعًا.
ومن المؤكدات في الجملة: السين والتاء:
يقول ابن حجر: والاستفعال بمعنى الإفعال، كالاستجابة بمعنى الإجابة. وقال الطيبي: السين للطلب وهو المبالغة.
وقال ابن عاشور: إن السين والتاء لمجرد التوكيد...ولك أن تجعلهما للطلب؛ أي: اطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفا بالسعي للإشهاد، وهو التكليف المتعلق بصاحب الحق.
وعلى هذا:
فإن الألف والسين والتاء مع دلالة الطلب،تفيد: التوكيد والتحقيق،وهو من معانيها النحوية.
ومن المؤكدات في الجملة أيضًا: تعدية الفعل إلى المفعول المطلق:
والأصل في المفعول المطلق التوكيد، أو البيان للنوع، أو للعدد، وفي بيان النوع والعدد ضرب من التوكيد أيضًا، فلما قيل: {واستشهدوا شهيدين} فُهم وجوب الإشهاد من طريقين:
الأول: من الأمر المسبوق بالسين والتاء.
والآخر: من تعدية الفعل إلى المفعول المطلق.
واشترط العدد في الشاهد، ولم يكتف بشهادة عدل واحد، لأن الشهادة لما تعلقت بحق معين لمعين اتُهم الشاهد باحتمال أن يتوسل إليه الظالمُ، الطالب لحق مزعوم، فيحمله على تحريف الشهادة، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة، فاشترط فيه الإسلام- وكفى به وازعًا- والعدالة؛ لأنها تزع من حيث الدين والمروءة، وزيد انضمام ثان إليه؛ لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور.
وفي صيغة {شهيد} نغم له مردود عظيم في قلوب المسلمين، فالصيغة تحمل معنى التضحية، والإقدام على المخاطر، ولعل في السين والتاء أيضا من المعاني ما يشعر بالجهد المبذول في السعي الجاد في طلب الشهيدين؛ لأنهما عزيزان بين الناس، لأنه طلب وبحث عمن تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها، مقتدر على أدائها، وكأن فيها رمزًا إلى العدالة؛ لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم، ولعله لم يقل رجلين لذلك.
وإنما قال: {من رجالكم} ليضيف إلى العدل معنى الذكورة القادرة على تحمل تبعات الشهادة، ولأوائها، ثم أضيف لفظ الرجال إلى ضمير الخطاب، ليشير إلى شهرتهم بين الناس، فهم المعروفون المعدودون من الرجال؛ وذلك لأن القصد من الإشهاد إحقاق الحق عند الخصومة، وهذا يتطلب معرفة الشاهدين، وسهولة إحضارهما، كما أن في هذه الإضافة معنى آخر أشار إليه ابن عاشور بقوله: والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام، وعليه فلا يجوز شهادة الكافر على المسلم؛ لأنه ليس من رجالنا.
وبعدُ: فما زلت ألمح هذا الخيط الساري بين جنبات الآية، والذي يصل أولها بآخرها، ويربط بين تراكيبها، ويبرز مع كل جملة، بل كل كلمة، هذا الخيط الذي تحدثت عنه آنفًا، والذي يضع العقبات والعراقيل أمام إشاعة الديون، فهناك الآن في بعض الدول رغبة جامحة لجعل الشعب كله مديون، وانظر قليلًا إلى هذا الطوفان الذي يهجم على الناس من خلال وسائل الإعلام، بل انظر أيضا إلى الوعود المقدمة للشباب العاطل عن العمل، فبدلا من تحريره من البطالة، وتوفير فرص للعمل يريدون تقييده بالديون، ليزداد الخناق عليه، فلا يرى، ولا يسمع، ولا يهتم بعد استدانته إلا بدينه، أو العقوبة!